تعليقات أولية علي مسودة الدستور
- نشهد جميعنا الآن المنتج الأولي (أرجو ألا يكون النهائي)
لمسودة دستور مصر الثورة ، ثورة نادت بالخبز والحرية والعدالة الإجتماعية ، ولا
أخفي أنني فجعت حين بحثت عن مفردات : الفقراء – المهمشين – العشوائيات – أطفال الشوارع
– الأقليات – التعذيب ، لم أجد لاي من تلك المفردات أثرا يذكر بمسودة الدستور ،
وهو ما جعلني أعود بذاكرتي لدساتير عهود مضت ... تلك الدساتير التي تحوي جملا
وعبارات رنانة وعلي صعيد آخر تعطي للمشرع القدرة علي سرقة مقدرات وطن والتضحية
ببعض أبنائه من أجل البعض الآخر بالقانون .
- يردد البعض أننا متعنتين في قراءة مسودة الدستور
وأننا حتي نكون موضوعيين يجب ألا نقف عند لفظ بعينه أو عند حرفية نص ما :
بداية يجب أن ننوه إلي أن الدستور هو العقد الإجتماعي
بيننا وبين السلطة ، وأن الكلمة بل الحرف يمكن أن يفتح علينا أبوابا للجحيم ويمكن
أن يرتب علينا التزامات أو ينتزع منا حقوق بدون أن ندري : دعني أسألك سؤالا : ما
الفارق بين كلمة : "بناء علي قانون" ، وبين كلمة "بقانون" ؟؟
هل تعلم أن " الألف واللام" قد يغيران معني النص تماما ؟؟ ما الفارق بين
"مبادئ" وبين "أحكام" ؟؟ .... يمكن ايضا أن تجد من يقول لك :
لا تضمر سوء النية وكن حسن النية ، هل هناك شئ ما يسمي سوء النية وحسن النية عند
صياغة دستور سيكون الإطار الحاكم لحقوقنا وواجباتنا لعشرات السنين ؟؟ الإجابة هي
لا فهناك فقط : نص دستوري ملزم للكافة بغض النظر عن سوء أو حسن نية من قام بصياغته
.
- أيضا يجب أن ننوه إلي أن هناك طريقتين لكتابة الدساتير
في العالم : الطريقة التقليدية التي تقتصر علي ذكر المبادئ العامة فقط في عبارات
قصيرة ودالة ، والطريقة الحديثة التي تعلن نهاية عصر تفويض المشرع في صياغة الحقوق
والحريات العامة وتنطلق من صياغات أكثر تفصيلا ، والواضح أن الجمعية التأسيسية لم
تنتهج أيا من المدرستين فصاغت بشكل عشوائي لا يمكنك أن تنسبه إلي أي من مدرستي
كتابة الدساتير ، وهذه العشوائية قد يكون لها مدلول خطر مفاده اهتمام اللجنة
التأسيسية ببعض الجوانب علي حساب الآخر وهو مالايجوز عند صياغة وثيقة جامعة ملزمة للكافة كالدستور أو قد تنم تلك العشوائية عن جهل بكثير من الحقوق
وطريقة تنظيمها ،
هذا إلي جانب وجود مشكلات حقيقية في صياغة بعض المواد نذكرها علي سبيل المثال للتدليل علي أن مثالية بعض مواد المسودة "إن وجدت" لا يمكن أن تجعلنا نقبلها كما هي ، ومن تلك المواد :
أولا : المادة 10 :" تلتزم الدولة والمجتمع برعاية الأخلاق
والآداب العامة وحمايتها والتمكين للتقاليد المصرية الاصيلة......... وفقا لما
ينظمه القانون " ما هو مفهوم الأخلاق والآداب العامة من وجهة نظر الدولة ؟؟
ومن الذي سيحدد ذلك ؟؟ كيف ستقوم الدولة بحمايتها ؟؟ ما مفاد النص علي : تلتزم
الدولة و "المجتمع" ؟؟ لا يجول بخاطري عند قراءة كلمة المجتمع في تلك
المادة إلا جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ما هي التقاليد المصرية
الاصيلة ؟؟ من أيضا سيحددها وما مفهوم
حمايتها والتمكين لها ؟؟ هذه المادة يمكن أن تستخدم للعصف بالحريات الشخصية بطريقة
بشعة ولا يجوز أن تترك هكذا ، وكنت أتمني أن يكون النص مثلا : " تلتزم الدولة
والمجتمع بحماية الحريات الشخصية بما يكفل حرية البشر في إدارة شئون حياتهم في
حدود القانون بما يكفل استقرارهم واستقلالهم وحمايتهم من التطرف وكفالة حقهم في
حياة حرة كريمة بدون تدخل من السلطة أوالأفراد ".
ثانيا : المادة 11 : "تحمي الدولة الوحدة الثقافية
والحضارية واللغوية للمجتمع المصري وتعمل علي تعريب العلوم والمعارف " :
والسؤال هنا : ماذا تعني كلمة الوحدة الثقافية والحضارية واللغوية ؟؟ هل نحن شعب
صاحب ثقافة واحدة أو حضارة واحدة أو لغة واحدة ؟؟ ماذا عن حق الامازيغ والنوبيين في
التحدث بلغاتهم ؟؟ ما هو دور الدولة في حماية تلك اللغات من الإنقراض والعمل علي
تدوينها وحفظها من الضياع باعتبارها إحدي عناصر التراث الإنساني ؟؟ لا يمكنني أن
أفهم تلك المادة إلا في إطار أنها قد تتيح للمشرع مصادرة بعض أوجه النشاط الثقافي
في مصر
ثالثا : المادة 13 : " يهدف الإقتصاد الوطني إلي تحقيق
التنمية المستديمة المتوازنة وحماية الإنتاج وزيادة الدخل ......... بما يكفل حياة
كريمة لكل مواطن " وهذه المادة لا تعدو في معظم أجزائها مجرد نصوص عامة غير
محددة لا تلزم أحدا بشئ خاصة فيما يتعلق بخطة الإقتصاد الوطني ومحدداتها ، ما هو
مدي التزام الدولة بالحفاظ علي مؤسساتها الإقتصادية والإجتماعية ؟ما مدي التزام حكومة
ما بخطة اقتصادية أو تنموية وضعتها حكومة سابقة لها ؟؟ هل نحن دولة اشتراكية أم
راسمالية ؟؟ هل ستحتكر الدولة بعض الصناعات الإستراتيجية لأهميتها وخطورتها القصوي
؟؟ ما هو حد التزام الدولة باستغلال الثروات الطبيعية بشكل أمثل ؟؟ ما هي محددات
سياسة الدولة المصرفية ؟؟ ....إلخ
رابعا : مادة 33 : "كل من يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته
...... ويعاقب المسئول عن مخالفة شئ من ذلك وفقا لما ينظمه القانون
..........." لم تأت هذه المادة من قريب أو بعيد علي ذكر مصطلح التعذيب أو
تعريفه وإنما أحالت ذلك للقانون الذي يقصر تعريف جريمة التعذيب علي إيذاء المتهم
بدنيا أو معنويا لإجباره علي الإعتراف بجرم ما ، وباقي ممارسات العنف من الشرطة
وغيرها ضد الأفراد تعد جريمة استعمال قسوة لطالما افلت بها المئات والمئات من
الجلادين من العقاب ، وكنت أتمني أن يلتزم نص تلك المادة بالتعريف الحرفي لجريمة
التعذيب كما ورد في اتفاقية مناهضة التعذيب حتي تكون قيدا علي اي مشرع وحائلا دون هروب
اي من الجلادين من العقاب إنما للاسف تعكس تلك المادة ما مفاده أنه لا يوجد اي
تغير في وجهة النظر من جريمة الإيذاء البدني والمعنوي لآحاد الناس والتي تصل لحد
القتل بواسطة السلطات العامة ، بالرغم من أن أحد اسباب قيام ثورتنا كان جرائم
التعذيب المتزايدة والبشعة .
خامسا : المادة 50 : "............... وتلتزم جميع المؤسسات
التعليمية العامة والخاصة والأهلية وغيرها بخطة الدولة التعليمية وأهدافها
......... " وهذا النص من وجهة نظري هو نص كارثي يسمح للنظام أن يفرض علي
الجميع نظاما تعليميا ما بغض النظر عن جودته من عدمه لأن ذلك يعد قيدا علي الحق في
حرية التعلم ، وكنت أتمني أن تنص تلك المادة علي ضرورة تحديد مفهوم خطة الدولة
التعليمية بتحديد أهدافها علي الأقل كأن يكون : " وتلتزم المؤسسات التعليمية
العامة و الخاصة والأهلية وغيرها بخطة الدولة التعليمية بما يكفل الإرتقاء باساليب
التعلم وتعميق قيم المواطنة واحترام الآخر ورعاية المواهب والطاقات الإبداعية ونبذ
العنف واحترام الحريات ..... إلخ ".
سادسا : المادة 53 : " تلتزم الدولة بوضع خطة شاملة للقضاء
علي الأمية وتجفيف منابعها لكافة الاعمار من الذكور والإناث وتسخر طاقات المجتمع
لإنجاز هذه الخطة خلال عشر سنوات من تاريخ العمل بالدستور " هذا النص يواجه
الامية ويفردها بخطة خاصة باعتبارها ظاهرة خطيرة وهو شئ جيد في الواقع ولكن ماذا
عن بقية الظواهر الإجتماعية والإقتصادية الخطرة التي تنخر في عظام الشعب المصري
ويحتاج القضاء عليها إلي التزام خاص وجدول زمني يحدده الدستور حتي لا يتملص منه
المشرع أو الدولة ؟؟ ماذا عن ظواهر الفقر والتحرش والعنف الاسري والعشوائيات
وأطفال الشوارع .... إلخ ؟؟
سابعا : المادة 76 : " الدفاع عن الوطن وأرضه شرف وواجب
مقدس والتجنيد إجباري وفقا لما ينظمه القانون " وهو لا يكفل القضاء علي تشغيل
الشباب المصري بالسخرة في مزارع ومصانع الشيكولاتة والمكرونة ودور الافراح الخاصة
بالقوات المسلحة وفي مزارع الوزراء والمسئولين كالسابق ، ويفضلأن تنص هذه المادة
علي أن التجنيد إجباري فقط لأغراض العمليات العسكرية أو الدفاع عن الوطن .
ثامنا : المادة 221 : " مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل
أدلتها الكلية وقواعدها الغصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة
والجماعة " هذا النص الموضوع التفافا علي إرادتنا بأن يقتصر نص المادة
الثانية علي أن تكون مبادئ الشريعة الغسلامية فقط هي المصدر الرئيسي للتشريع وليس
الأحكام ... فقامت اللجنة التأسيسية بالإلتفاف علينا جميعا ووضع هذا النص وحصر
مبادئ الشريعة الإسلامية فيما سبق ذكره وهو ما يعني أن المقصود بمبادئ الشريعة هو
أحكامها .. وهو نص خطير يفتح علينا ابواب التطرف والفرقة ويفتح بابا للمتشددين
والمختلين ويقف عائقا أمام الدولة في مواجهة ظاهرة زواج الصغيرات وختان الإناث
والقضاء علي العنف الأسري وحقوق المرأة والطفل والإتجار بالبشر.... إلخ ويجب أن
تحذف تلك المادة من الاساس توقيا لكل ما سبق ذكره خاصة وإذا علمنا أن نص المادة 71
التي تنص علي : " يحظر الرق والعمل القسري وانتهاك حقوق النساء والأطفال
وتجارة الجنس ويجرم القانون كل ذلك " تلك المادة وفقا للمسودة التي بين يدي
قد تم حذفها .
تاسعا : أخيرا وليس آخرا فإن مسودة الدستور لا تحتوي علي أي نص يحدد
موقف مصر من اتفاقياتها الدولية ومواثيق حقوق الإنسان التي صدقت عليها مصر ولا
ترتيبها بالنسبة للتشريعات الداخلية وهو ما يجب تداركه وعدم تمريره لخطورته علي
حماية حقوق الإنسان وفتح الباب للتطبيق الإنتقائي لنصوص المعاهدات والمواثيق
الدولية .
هذا بالطبع إلي جانب العديد من النصوص الكارثية التي تحدث فيها الكثيرون مثل النص الخاص بمساواة المرأة بالرجل "بما لا يخالف أحكام الشريعة الغسلامية" أو النص الخاص بحقوق الطفل والذي يخلو من النص بشكل صريح علي حد أدني للسن التي لا يجوز تشغيل الأطفال خلالها ، ولا يتحدث عن حماية الأطفال من العنف الاسري والمجتمعي بشكل صريح
وهو ما يجعلني أقول أن القائمين علي صياغة البابين الأول والثاني من مسودة الدستور المتعلقين بالدولة والمجتمع والحقوق والحريات العامة يسيطر عليهم بعض الأفكار الظلامية التي إن وافقنا عليها متمثلة في صياغة عدد لا بأس به من مواد الدستور فإن ذلك يمثل ردة علي الثورة وعلي ما خرج ملايين المصريين ينادون به : عيش - حرية - عدالة إجتماعية ، ويجعلنا نسأل سؤالا : هل هذا دستورا للثورة أم دستورا للسخرة ؟؟